السبت 20 أبريل 2024
توقيت مصر 08:16 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

أكذوبة عصر النهضة

حاول كثير من المؤرخين الأوروبيين عند كتابتهم للتاريخ أن يثبتوا أن العقل الغربي متفوق بطبيعته على سائر الأجناس و العرقيات الأخرى ، وأنه يمثل النقطة المركزية لانطلاق الفكر الإنساني في المراحل التاريخية المختلفة، فالفلسفة لديه إغريقية النشأة و كذلك العلوم و الرياضيات وكل ما يتعلق بالتقدم المعرفي والعلمي والتقني .فالمنجز الغربي من وجهة نظرهم  منجز غربي خالص دون أي مؤثرات أو عوامل خارجية .و قد أدى الترسيخ لهذه المفاهيم الاستعلائية إلى هيمنة الفكر الغربي على كثير من الشعوب و الأمم ، واستغلال  ونهب ثرواتهم بل وإبادتهم أحيانا . ولأن وصمة العصور المظلمة و محاكم التفتيش في جبين العالم الغربي لا يمكن أن تمحى ، كان لابد عند كتابة التاريخ الغربي من إيجاد مبررات لهذه الانفصال الانتقالي break transitional  (عن الماضي) بما يحويه من تخلف حضاري وتعصب مذهبي وديني. لذلك جاء مصطلح عصر النهضة Renaissance  وهو يعني (الميلاد من جديد) باللغة الفرنسية . والمقصود بعصر النهضة هو تلك النهضة التي حدثت في إيطاليا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر عند أكثر المؤرخين الغربيين والتي تعتمد على مقاربة مختلفة لتفسير التاريخ من خلال (التفسير الفني) و(الجمالي) و( الأدبي) بعيدا عن طرق التفسير الأخرى الاقتصادية والهيجلية. وقد قدمت الكثير من النظريات الغربية لتمجيد تلك الفترة Glorification of the Renaissance في إيطاليا وخاصة مدينة فلورنسا كما تم استخدام مصطلحات براقة من عينة أبطال الفردية Individual heroes ،و تم الترويج لأسماء كبيرة في ذلك العصر مثل دانتي ومايكل أنجلو وليوناردو دافنشي وغيرهم . لكن هناك فريقا آخر من المؤرخين الغربيين المنصفين الذين رفضوا هذه الفكرة ، ووصفوها بأنها أسطورة أو أكذوبة myth لأنها تتناقض مع العقل و المنطق والتطور الطبيعي للحضارات ، وأن الفن أو المعمار و الأدب لا يكفي لبروز مثل تلك الأنظمة السياسية و الأبنية المعرفية والنظم العلمية ، و|أن ثمة شروطا أخرى لحدوث (النهضة الحقيقية ) لا المزيفة ، وبخاصة أن تلك الأعمال الفنية كانت ذات مضامين لاهوتية وخرافية تتعارض مع فكرة النهضة و التحرر العقلي . ومن هؤلاء المؤرخين الذين رفضوا ذلك التقسيم الغربي للتاريخ ،  الكاتب و المؤرخ البريطاني جي بي بَلن  J.B.Bullen  في كتابه أكذوبة عصر النهضة في كتابات القرن التاسع عشر The myth of the  renaissance in the nineteenth century writing  يرى أن مصطلح عصر النهضة (الإيطالية) Renaissance  وهو المصطلح الذي تم الترويج له على أيدي بعض المؤرخين الفرنسيين ثم  الإنجليز . وقد تتبع بَلن هذا المصطلح من حيث النشأة و التطور و العوامل التي ساعدت على انتشاره مشيرا إلى كتابات فولتير و إدوارد جيبون . ثم تعرض إلى كتابات وليام  روسكو وكثير من المؤرخين الذين ساهموا في استخدام وتكريس المصطلح حتى ظهور كتاب تاريخ النهضة الفرنسية  Histoire  de France Renaissance للكاتب الفرنسي جول ميشيليه Jules Michelet  عام 1855   الذي رأى أن النهضة كانت انتصارا في حركة تطور المجتمع الإنساني ، وكذلك زميله المعاصر إدجار كينيه Edgar Quinet في كتابه  les Revolutions d’ Italie (1849)  وهما الكتابان اللذان يرى المؤلف أنهما كانا العامل الأكثر أهمية في هيمنة مصطلح النهضة على العقل الغربي ليس في فرنسا وحدها ، ولكن في أوروبا كلها . لقد بدأت أصوات أوروبية كثيرة تراجع وتعارض أطروحة (عصر النهضة) هذه  التي امتدت خلال خمسة قرون حتى وصلت ذروتها على يد المؤرخ السويسري ياكوب كوردهارد   Jakob Burkhard عام 1860 وكتابه ، kultur Der Renaissance  . لقد كان لعلوم الشرق و العلوم العربية وحركة التبادل التجاري والحروب الصليبية الأثر الأكبر في ظهور عصر النهضة و التنوير الغربي ، أما  أن تكون النهضة ذاتية ومن خلال التفسير الجمالي و الفني للتاريخ ، فهو أكذوبة غربية كما يرى الباحثون المنصفون .