الأربعاء 24 أبريل 2024
توقيت مصر 23:25 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

تجديد الدين.. أم تجديد (موقفنا) من الدين؟

لقد سبق وقيل كل شىء ولكن وبما أنه أحد لا يستمع.. فعلينا تكرار كل شىء من البداية..هكذا نطق أحد الحكماء  معبرا عن دهشته من عدم الاستماع  لما قيل ولما يقال ..ومن كثرة تكرارما قيل سابقا ..فإما أن الناس غير جادين فى الاستماع..أو أنهم يريدون سماع شيئا أخرغير الذى قيل لهم,, مع رغبتهم فى عدم قول ذلك صراحة..      غير أن فضيلة الإمام الطيب شيخ الأزهر أضاف (توقعا ثالثا) حين أبدى دهشته من الانشغال بموضوع التجديد والتراث وعدم الانشغال بامتلاك اسباب القوة والقدرة المادية .. وضرب مثلا مؤلما بعدم القدرة على تصنيع (كاوتش سيارة) لا سيارة كاملة! رغم أن لدينا جامعات بها كافة التخصصات العلمية والصناعية من أكثر من مائة عام كما قال.
***
القراءة التاريخية الدقيقة تقول أن(موقفنا)من الدين ومدى حضورالدين فى المجال العام و فى حياتنا هو مؤشر (النهوض) من جهة إقامة الدين فى قلوب الناس و واقع حياتهم وحالهم..وهو أيضا مؤشر(الإضمحلال) من جهة خروج الدين من قلوب الناس وواقع حياتهم وحالهم مهما كانت مظاهر الدين حاضرة فى طقوس ومظاهر وشكليات ..والأيات القرأنية تذكر بجلاء(القلب السليم )وما يحويه هذا القلب من إحسان وما يحويه من حب وخشوع لله وعلم اليقين بأن الله يراه ويطلع على خفاياه ..الإسلام أيها الأصدقاء _وكما نعلم جميعا _ هو بطبيعته وكما أُنزل ليس دين فقط.. انما هو دين وحياة كاملة وجاء ليقيم مملكة الأرض التى يسكنها الإنسان كما قال على عزت بيجوفيتش.. بثنائية فريدة مركبة جمعت بين واقعية التوراة ومثالية الانجيل.. بين المادى والروحى..بين الغيب والعقل..بين ما يٌرى وما لايٌرى..بين الحس والوجدان..وأخيرا بين الدنيا والأخرة..حقيقة الأمر أن ما ينقصنا.. وما نحتاجه  فى الحقيقة هو أن نجدد موقفنا من الاسلام باشراقه الروحى..وفلسفته الكونية..وشريعته العادلة..وأخلاقه السامية ..وأبعاده الإنسانية..وثوابته الراسخة..وشموليته الفذه .
***
تقول الحكاية  التى يدندن لنا بها أنصاف المثقفين وأنصاف المفكرين ..أن الراهب مارتن لوثر (1483- 1546) مؤسس المذهب البروتستانتي دعا هو والمصلحون الآخرون من رجال الدين المسيحى إلى الخلق القويم.. ووجهوا نقدا حادا لرجال الكنيسة لانصرافهم لجمع الثروة وإلى الحياة اللاهية  واعترض على صكوك الغفران ونشر في عام 1517 رسالته الشهيرة المؤلفة من(خمس وتسعين) نقطة تتعلق أغلبها بلاهوت التحرير وسلطة البابا في الحل من(العقاب الزمني للخطيئة) ورفض التراجع عن نقاطه الخمس والتسعين بناء على طلب البابا ليون العاشر عام 1520 وطلب الإمبراطورية الرومانية المقدسة ممثلة بالإمبراطور شارل الخامس.. وأصر على موقفه قائلا :أن البابا نفسه لا يستطيع غفران الذنوب ..وأن الله وحده هو القادر على غفران ذنوب البشر وأن صكوك الغفران بدعة.. بل حتى(البابوية)نفسها اعتبرها مارتن لوثر بدعة..مما أدى به للنفي والحرمان الكنسي وإدانته مع كتاباته بوصفها مهرطقة كنسيا وخارجة عن القوانين المرعية في الإمبراطورية.
كل هذا جميل ويشير الى مواقف تاريخية وانسانية شامخة.. لكن لا علاقة للإسلام بها .. فى أحلك أوقات التراجع الحضارى لم يصل الأمر عندنا لا دينيا ولا اجتماعيا إلى ما وصلت اليه أوروبا قبل مارتن لوثر وحركته الإصلاحية .
***
الشرق العربى والاسلامى عرف النقاش والحوار الطويل العميق حول (التجديد الدينى )من قرنين مضوا فى صولات وجولات جمال الدين الافغانى وصاحبه محمد عبده ومن تلاهم من العلماء والمفكرين وحتى السياسيين والذين بدأوا جميعا تجديدا(أمينا) لمفاهيم وتطبيقات صحيح الدين ونصوصه..ولم يزايد عليهم أحد فى هذه (الأمانة )التى صاحبتهم فى كل أرائهم  الواصلة بين الدين والحياة.
للأسف بعض من يهاجمون ويتطاولون على التراث والمكتبة الصلبة للأمة لا يريدون فقط ان يضعوا فى أعناقهم سلاسل ويسلموها ليد الغرب باستنساخهم الماسخ لتجربة الإصلاح الديني فى أوروبا ..وإنما هم أساسا يريدون مخاصمة صحيح الدين والتجربة التاريخية للأمة فى التكوين الحضارى.
هم خصوم لهذه المفاهيم ولا يريدونها ولا يحتملون رؤيتها فى واقع الناس لأنهم لا يشعرون بها ولم تتحرك فى وعيهم وإدراكهم كمفاهيم كبرى لإقامة الحياة الإنسانية بتمامها وكمالها كما يريدها الإسلام ..هم مسلوبون تماما فى إطار مفاهيم أخرى وتجارب أخرى..
***
كان(سعد زغلول) الليبرالى يعتبر نفسه ابنا روحيا للشيخ الإمام محمد عبده والذى كان شديد القرب منه وكان يرعى شئونه العامة..خاصة وقت نفيه عقب هزيمة الثورة العرابية وكان يفتتح رسائله إليه بعبارة :مولاى الأفضل ووالدى الأكمل أحسن الله معاده.. ومآبه(رجوعه من النفى)..ويختم الرسائل بعبارة ولدكم سعد زغلول ويقول فى ذلك الشيخ رشيد رضا(إن روح الأفغانى ومحمد عبده قد تجلت فى أعماله _يقصد سعد زغلول_ ومواقفه وأنه قد أصبح عميد الحزب المدنى للأستاذ الإمام وأقوى أركان هذا الحزب).                           
ويحكى لنا الدكتور/محمد عمارة أن سعد زغلول حين عاد من أوروبا عام 1921م ذهب الى الجامع الأزهر وخطب بعد أداء صلاة الجمعة منوها بفضل الدراسة الأزهرية التى علمته (الحرية والاستقلال الفكرى)وقال:لقد جئت اليوم لأؤدي فى هذا المكان الشريف فرض صلاة الجمعة وأقدم واجبات الاحترام لمكان نشأت فيه..وكان له فضل كبير فى(النهضة الحاضرة) تلقيت فيه مبادىء الاستقلال لأن طريقته فى التعليم تربى ملكة الاستقلال فى النفوس) .
***
يحفظ لنا تاريخ الأزهر أن فضيلة الشيخ محمد مصطفى المراغى شيخ الأزهر قال لرئيس وزراء مصر فى الفترة من 1940 الى 1942 حسين سرى باشا وقت الحرب العالمية الثانية حين رفض الأزهر اشتراك مصر في الحرب قائلا:لا ناقة لمصر فيها ولا جمل ..فما كان من الباشا إلا أن وجه لومًا للإمام وهدده وطلب منه ان لا يقل مثل هذا الكلام ثانية إلا بعد الرجوع اليه..!! فرد عليه الشيخ قائلا: (أمثلك يهدد شيخ الأزهر؟ فلتعلم أن شيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة) فما كان من رئيس الوزراء إلا الصمت .
وتقول لنا سيرة الإمام المراغى انه حين كان قاضي السودان عام 1910 إعتزمت الحكومة البريطانية أثناء احتلالها للهند الإحتفال بتنصيب الملك (جورج الخامس) إمبراطورا على الهند فأصدرت الأوامر إلى الأعيان وكبار الموظفين في السودان بالسفرإلى ميناء(سواكن) لاستقبال باخرة الملك وهي في طريقها إلى الهند حيث تتوقف لبعض الوقت..وكان في مقدمة المدعوين قاضي السودان (الشيخ المراغي) وكان البروتوكول يقضي بأن لا يصعد إلى الباخرة إلا الحاكم الإنجليزي .. وباقى المستقبلين يقفون بمحاذاة الباخرة ويكفيهم إطلالة الملك عليهم.. وعلم الشيخ  بذلك الترتيب فأخبر الحاكم الإنجليزي بأنه لن يحضر لإستقبال الملك إلا إذا صعد مثله إلى الباخرة لملاقاته..!! وبالفعل صعد الشيخ المراغي السفينة وقابل جورج الخامس وصافحه وهو منتصب الهامة والقامة.. فقالوا له بعدها: كان ينبغي أن تنحني للملك كما ينحني كل من يصافحه.. فرد الشيخ في اعتزاز بدينه ونفسه وعلمه : ليس في ديننا الركوع لغير الله.
تاريخ عريق طويل من النضال النبيل الصلب  قدمه الازهر وشيوخه و رجاله عبر أكثر من ألف عام حاملا أنوار الهداية والوسطية ..مجاهدا وحارسا أمينا على الدين والوطن.
وأختم بجملة بالغة العمق والتأثير للدكتور/شفيق شحاتة (القبطى)والذي كانت رسالته للدكتوراه عن(مصادر الالتزام في الشريعة الإسلامية) إذ قال الرجل فى أحد الاحتفالات بكلية الحقوق (لإن كان البعض يتعصب للإسلام تعصبًا دينيًا ..فأنا أتعصب له تعصبًا علميًا).