الثلاثاء 23 أبريل 2024
توقيت مصر 10:47 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

«مجدي يعقوب».. «ملك القلوب» الذي وعد فأوفى

مجدي يعقوب

لا يختلف اثنان على نبوغه في مجال جراحات القلب، وكونه واحدًا من أبرز الجراحين على مستوى العالم في هذا التخصص، وهو النجاح الذي كان ثمرة عمل واجتهاد بدأ قبل أكثر من 60 عامًا ولم يتوقف حتى الآن.

مثلما لا يختلف أحد على إنسانيته، التي ربما تعود إلى طبيعة عمله في هذا الجزء من الإنسان، الذي ينبض بالمشاعر والأحاسيس، الأمر الذي جعل الإنجليز يُطلقون عليه "ملك القلوب". فهو رقيق إلى حد أن ابتسامة مريض تضحكه من القلب، وآلامه وأوجاعه تبكيه.

لم يكن اختيار الدكتور مجدي يعقوب، التخصص في مجال جراحة القلب مصادفة، فذلك قصة كانت بطلتها أقرب الناس إليه، وهي عمته التي توفيت في ريعان شبابها، بسبب ضيق في صمام القلب الميترالي، وكان عمرها آنذاك 21 عامًا، وهو الأمر الذي أصاب والده الذي كان يعمل طبيبًا بانهيار، حزنًا على شقيقته الصغرى.

*وفاة عمته سر اختياره تخصص جراحات القلب

كان عمر يعقوب وقتها 5 سنوات، لكن وفاة عمته أصابته بالحزن، خاصة وأن والده أخبره بأنه كان من الممكن حل أزمة عمته الصحية، بعد أن أخبره عن علاجات جديدة لفتح الصمام، ليرد الطفل الذي لم تكن عينه تفتحت على الدنيا بعد، قائلاً لوالده: "أنا هبقى جراح قلب"، لم يصدق والده أنه يستطيع فعل ذلك، لكنه آمن بحلمه منذ الصغر، واجتهد من أجل تحقيقه.

في بلبيس بمحافظة الشرقية، كان مولد يعقوب الذي سيصبح فيما "السير بروفيسور" في 16 نوفمبر 1935 لعائلة قبطية أرثوذكسية تنحدر أصولها من أسيوط، وهو أب لثلاث أبناء ولدان وبنت، والأخيرة (صوفي) هي الوحيدة التي اختارت أن تدرس الطب، اقتداءً بوالدها، كما اقتدى هو بوالده الذي كان طبيبًا متخصصًا في الجراحة العامة، وكان يكن له كل إعجاب.

شق يعقوب طريقه إلى النبوغ، وكان متفوقًا في دراسته، مما أهله للالتحاق بكلية الطب جامعة القاهرة، ومنها حصل على بكالوريوس الطب والجراحة عام 1957.

كأي طبيب في بداية حياته، لم يكن الطريق ممهدًا أمام بالورود، بل كان صعبًا كصعوبة الحياة في ذلك الزمن البعيد. فيحكي أنه بعد تخرجه كان يذهب إلى الأقاليم، وهناك كان يتم نقله عن طريق الدواب، وبعدها يقوم أحد الأشخاص بحمله حتى يقوم بتخطيته المجرى المائي (القنا).

ثم عمل جراحًا نائبًا في مستشفى القصر العيني، وحتى بعد هذه السنوات الطويلة لا يزال يتذكر أول عملية جراحة قلب أجراها في حياته، وكان في ذلك الوقت نائبًا في قسم عمليات الصدر، وتعرض لموقف صعب مع أحد المرضى، كان اختبارًا قويًا له في بداية مشواره العملي، وهو إما أن يقوم بإجراء عملية له، أو أن يتركه يتوفى، وهنا اختار فتح قلب المريض وإجراءها لتنجح أول عملية له، وكانت تلك أول عملية ناجحة في سجله الطبي الحافل الذي يمتلئ بأكثر من 25 ألف عملية قلب أجراها خلال مشواره الطويل، من بينها أكثر من 2500 عملية زراعة قلب.

*سفره إلى إنجلترا حلم الصغر

لم ينس أبدًا الوعد الذي قطعه على نفسه وهو صغير لوالده، حين أخبره بأن هناك علاجًا لحالة عمته في إنجلترا، فقال له إنه سيذهب إلى هناك ويأتي به، ليسافر إلى بريطانيا في عام 1962، لاستكمال دراسته، وهناك حصل على الزمالة الملكية من ثلاث جامعات، هي زمالة كلية الجراحيين البريطانيين بلندن، زمالة كلية الجراحين الملكية بأدنبرة، وزمالة كلية الجراحين الملكية بجلاسكو، ثم عمل باحثًا بجامعة شيكاغو الأمريكية عام 1969، ورئيسًا لقسم جراحة القلب عام 1972، وأستاذًا لجراحة القلب بمستشفى برومتون في لندن عام 1986، ثم رئيسًا لمؤسسة زراعة القلب ببريطانيا عام 1987، وأستاذًا لجراحة القلب والصدر بجامعة لندن.

كما شغل منصب مدير البحوث والتعليم الطبي، واختير كمستشار فخري لكلية الملك إدوار الطبية في لاهور بباكستان، بالإضافة إلى رئاسة مؤسسة زراعة القلب والرئتين البريطانية، وأصدر العديد من الأبحاث العالمية المتميزة، التي فاقت الأربعمائة بحث متخصص في جراحة القلب والصدر.

*أشهر عملياته الجراحية

وهو واحد من رواد جراحات زرع القلب في العالم، فهو ثاني طبيب بالعالم يجري عملية زراعة قلب بعد الدكتور كريستيان برنارد (1967)، وكان ذلك في عام 1980 حين قام بعملية نقل قلب للمريض دريك موريس، الذي أصبح أطول مريض يتم نقل قلب إليه في أوروبا يبقى على قيد الحياة إلى أن توفي في يوليو 2005.

كان يقوم بإجراء ذلك النوع من العمليات في البداية على نفقته ونفقة المتبرع، لأنه تكاليف هذه العملية لم تكن آنذاك تخضع لنظام التأمين الصحي للمرضى، وقد نجح نجاحًا باهرًا في مجال زراعة القلب والرئة، ثم زراعة الاثنين في الوقت نفسه عام 1986.

ومن العمليات النادرة التي قام بها عملية زراعة قلب لطفلة تدعى هنا كلارك تبلغ من العمر عامين، والتي كانت تعاني من تضخم في القلب بنسبة 200%، وكان ميئوسًا من شفائها، حيث أبلغ الأطباء والديها أنها ستفارق الحياة خلال 12 ساعة، لكنه قام بجراحة نادرة لها، حيث تم الإبقاء على القلب الأصلي دون استئصال، إلى جانب القلب الذي زرع إلى جواره.

وهذا القلب الذي تمكن من استعادة حجمه الطبيعي وعاد للنبض مرة أخرى بعد عشر سنوات، مما فتح الباب لأسلوب جديد في العلاج يقوم على زرع جهاز ميكانيكي يعمل على مساعدة القلب المريض على الشفاء، وفي سن السادسة عشر أشرف على إجراء جراحة لها في عام 2006 لنزع القلب المزروع.

*السير بروفيسور.. وجائزته الأهم

في عام 1991، منحته ملكة بريطانيا لقب سير، وتم منحة جائزة فخر بريطانيا في أكتوبر 2007 من قناة "اي تي في" البريطانية بحضور رئيس الوزراء آنذاك وصديقه الشخصي جوردن براون، وهي الجائزة التي تمنح للأشخاص الذين ساهموا بأشكال مختلفة من الشجاعة والعطاء، أو ممن ساهم في التنمية الاجتماعية والمحلية.

كما حصل علي جائزة الشعب لعام 2000 التي نظمتها هيئة الإذاعة البريطانية (B.B.C )، حيث انتخبه الشعب البريطاني للجائزة عن عموم إسهاماته العلمية وإجرائه أكبر عدد من عمليات زرع القلب في العالم.

على الرغم من ذلك، فإنه لا يهتم كثيرًا بالتكريم ونيل الجوائز، لأنه يعتبرها تقليلاً من قيمة الإنسان، لأن التكريم من وجهة نظره هو إزالة المرض والألم عن المريض، فتبقى ضحكة طفل صغير بعد شفائه أو كلمة شكر يتلقاها من آباء وأمهات المرضى، الذين يساعد في تخفيف آلامهم، هي جائزة الشعب الحقيقية، التي يتلقاها.. كما يردد دائمًا.

*تدريب شباب الأطباء

لم يكن من طبعه الأنانية، أو محاولته الاستئثار بالنجاح وحده، فعلى مدار مشواره الطويل، قام بتدريب الأطباء على مستوي العالم كله، منطلقًا في هذا الأمر من دوافع إنسانية، لأنه – وكما يقول - بهذا ينقذ مريضًا قد لايتحمل الانتظار، حتى يأتي بنفسه لإجراء العملية، وهو يفخر في كل مكان بالأطباء المصريين الذين تتلمذوا على يديه، وأصبحوا قادرين على إجراء عمليات زراعة القلب بنجاح كبير.

من أهم إسهاماته العلمية التي ستحدث طفرة حقيقية في جراحات القلب، إشرافه على تطوير صمام للقلب باستخدام الخلايا الجذعية، الأمر الذي سيسمح باستخدام أجزاء من القلب تمت زراعتها صناعيًا في غضون ثلاثة أعوام، وفي خلال عشرة أعوام سيتم التوصل إلى زراعة قلب كامل باستخدام الخلايا الجذعية.

وحاليًا يعمل مركز القلب الذي يحمل اسمه في محافظة أسوان بصعيد مصر على إخراج الخلايا الجذعية من الجلد واستخدامها في "صناعة" عضلة قلب.

وعلى الرغم من أنه عقب وصوله إلى سن الخامسة والستين، اعتزل إجراء العمليات الجراحية، إلا أنه استمر كاستشاري ومُنظر لعمليات نقل الأعضاء، وأنشأ في عام 1995 مؤسسة خيرية تدعى "مؤسسة الأمل للأعمال الخيرية" تتولى إجراء عمليات جراحية لإنقاذ حياة مرضى القلب من الأطفال في البلدان النامية.

*طبيب وليس قاضيًا

بطبيعة الحال، فإن جراحات القلب تحمل شيئًا من المخاطرة والمغامرة، لذا في حال عدم توفيقه في بعض العمليات يبدي حزنًا شديدًا.

ولأنه إنسان، فهو لا يضع في اهتماماته الخلفيات الشخصية لمرضاه، فقد أجرى عملية جراحية لأحد المتهمين في تفجيرات الأزهر قبل سنوات، لأنه وكما ويقول عن نفسه فإنه "طبيب وليس قاضيًا".

ينظر إلى مهنة الطب على أنها رسالة إنسانية قبل أن تكون أداة للربح وجمع المال. وعلى الرغم من كل هذه الشهرة التي حققها والمكانية العلمية التي تبوأها، إلا أنه يمتلك روحًا وإصرارًا كبيرين على العمل والإنجاز حتى الآن، وفوق كل ذلك يمتلك تواضعًا وبساطة جعله يقول إنه تمنى أن يصبح فلاحًا لو لم يكن جراحًا.

وحتى بعد بلوغه سنًا من هم في مثله يتقاعدون فيه، أو يجلسون في بيوتهم يبحثون عن الراحة، لكن الرجل الذي نذر حياته من أجل إنقاذ الآخرين ليس من هذه النوعية من البشر، فهو لا يكل من العمل، والبحث عن الجديد في تخصصه، قائلاً: "حتى الآن أبحث عن الكمال، فلا يزال هناك الكثير من الاكتشافات ولا يزال المجال مفتوحا للبحث العلمي أمام الشباب".

*مركز مجدي يعقوب

في عام 2009، أنشأ يعقوب مركزًا لعمليات القلب في مدينة أسوان، هذا المشروع الذي يعتبره حلم حياته، والمجهز بأحدث التقنيات الطبية الحديثة، ويقدم خدماته بالمجان للمواطنين البسطاء الذين يترددون عليه من كافة أنحاء الجمهورية.

ويتولى حاليًا الإشراف على فريق الأطباء، ويشارك في بعض الأحيان في إجراء عمليات القلب المفتوح. يعقوب الذي يمتلك تواضع العلماء، لا يخفي فرحه لنجاح فريقه المساعد عند إجراء العمليات الدقيقة التي علمها لهم، مثلما لا يبخل عليهم بأي شيء يضيف إليهم في تخصصهم، إلى الحد الذي جعله يقول :"مش عايز أي حاجة أعرفها أروح بيها لما أموت، وتضيع.. أنا عايز أعطي كل المعلومات دي للشباب"؛ فهو مؤمن تمامًا بأهمية الشباب، والذين لولاهم لم يكن ليستمر مركز جراحات القلب الذي أسسه في أسوان، كما يقول.

ويعتبر يعقوب قلوب المصريين الأكثر ألمًا ومرضًا مقارنة بالآخرين، بسبب تلوث الهواء وانتشار التشوهات وصدمات القلب والحمى الروماتيزمية والأكل وقلة الرياضة، بالإضافة إلى الحزن الشديد والقهر والإحساس بالظلم له.