الثلاثاء 19 مارس 2024
توقيت مصر 04:32 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

بومبيو.. صانع الذكريات والنكبات والأوهام

يعتبر الصحفى والكاتب الفرنسى إيميل كول(1859-1938م) الرائد التاريخى لصناعة(الرسوم المتحركة) في تاريخ هذا الفن السينمائى العتيق.. وقد عرض فيلمه الأول (الأوهام) عام 1908م في باريس ويقولون أنه أحتاج 700 رسم لصناعة هذا الفيلم (دقيقتين) ..وقد تأثر به كثيرا والت ديزني(1901 – 1966م) الأمريكي صاحب الإسم الأكثر شهرة في هذا المجال ..لكن يبدو أن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو(57 سنة) والغارق حتى أذنيه في التطرف والأصولية كما يٌوصف..قد تفوق على الاثنين الفرنسى و الأمريكى .
كيف كان ذلك ؟ ولماذا ؟ .  

تقول الحكاية أن بومبيو الذى لم يخرج من بلاده لا هو ولا أى مسؤول أمريكى كبير منذ شهرين تقريبا بسبب الجائحة (كوفيد 19) ..لكن بومبيو خرج .. وحين خرج ذهب إلى إسرائيل !!.. وحين ذهب قرر أن يذهب فى ذكرى النكبةالـ(72) لضياع فلسطين ..زيارة خاطفة لمدة يوم .. الإشارة بالغة الدلالة.. إنه يوم من أهم الأيام فى مخزون العقل(الاستعماري الغربي)..يوم تأسيس إسرائيل.
****
العقل الاستعمارى الغربى  يعشق استدعاء الذكريات الاستعمارية من الماضى السحيق.. تطبيقا لنظرية(من لا يشترى ..يتفرج) وبما أننا فى(عصر الفرجة) كما قال الروائى الكبير ماريو يوسا(84 عاما) فطبيعى ان تكون عناصر الفرجة متوافرة .. وأهمها وأوقعها بالطبع أن تلقى بالمشهد فى حجر التاريخ فتجعله موصولا بـ(القدر) المحتوم الذى لا يمكن أن يٌغالب..وهو في حقيقته أصلا ( هجص موهوم) .
اللورد اللنبى(1861-1936م)حين دخل القدس 6/12/1917م بعد الانتصار على القوات العثمانية فى الموقعة المعروفة ..أصر على دخولها وهو على راكب ظهر حمار كما فعل السيد المسيح عليه السلام .. أنت هنا لا ترى قائدا عسكريا بين جنوده دخل مدينة بالقوة.. أنت هنا تكاد ترى السيد المسيح نفسه وهو بين حوارييه يدخلون القدس فما تراه ليس إلا قدرا محتوما (موهوما)موصولا حاضره بماضيه ..وسيذهب إلى كنيسة القيامة ليقول جملته الشهيرة: اليوم انتهت الحروب الصليبية..(معقولة يا راجل..إنت لسه فاكر..؟)
الجنرال الفرنسى هنرى جورو(1867-1946م)  فعل نفس الشىء.. فحين دخل دمشق سنة 1920م كان أول شىء فعله ان ذهب وسط جنوده إلى قبر صلاح الدين الأيوبي(1138- 1193م)..ليقول لمن يعيش هذا المشهد فى هذه اللحظة (ها قد عدنا يا صلاح الدين )..(معقولة ياراجل ..ده كان زمان..؟) ..رحم الله الشاعر الصوفى الكبير عبد الفتاح مصطفى والسيدة أم كلثوم والموسيقار رياض السنباطى.
ترمب نفسه حين أصدر قرار نقل السفارة الأمريكية الى القدس أصدره  فى نفس التاريخ الذى دخل فيه اللورد اللنبى القدس 6/12/2017م .
الغرب مهووس بالتواريخ المتوافقة ذات الرسائل والدلالات الناطقة .. للسبب الذى ذكرته سابقا.. وقد يكون صحيح وكلنا نذكرمؤتمر مدريد 1991 م للسلام  الذى عٌقد فى مدريد تحديدا بمناسبة مرور خمسمائة عام بالتمام والكمال على سقوط غرناطة 1491م( المعقل الأخير للمسلمين في الأندلس).
****
جاء بومبيو ..غادر بومبييو..نعرف لماذا غادر.. لكننا لا نعرف لماذا جاء؟ هل لتأييد ودعم إسرائيل فى قرار ضم الضفة وغورالاردن ويكون الدعم فى تاريخ (النكبة) ؟ نتانياهو كان قد وعد فى القرار الأخير بتطبيق السيادة الإسرائيلية على جزء من الضفة الغربية و غور الأردن المنطقة الإستراتيجية التي تشكل 30% من مساحة الضفة الغربية .. هذه الخطوة قد تدفع الأردن إلى التراجع عن اتفاقية السلام التي وقعتها مع إسرائيل في عام 1994 م في حال أقدمت على ضم غور الأردن ..هل يحدث ذلك فعلا؟؟
هل إيران ؟ ذاك الموضوع البليد الممل الذى يحمل من السخافة أكثر مما يحمل من السياسة ؟ .
هل الصين ؟ خاصة وان العلاقات الصينية الإسرائيلية متميزة هذه الفترة وما قد يمثله ذلك من عقبة أمام آمال ترامب في بناء جبهة معادية للصين.
هل مجرد زيارة انتخابية لدعم ترامب ؟ لضمان أصوات اليهود والإنجيليين فى أمريكا( انتخابات نوفمبر 2020م) ..خاصة ونحن كما نعيش فى(عصر الفرجة)نعيش أيضا فى(عصر التفاهة) كما قال عمنا ميلان كونديرا(91 عاما)فى روايته الشهيرة ( حفلة التفاهة)..و الزيارة يقوم بها أحد أشهر المؤمنين بـ (المسيحية الصهيونية).
و(الصهيونية المسيحية) فكرة ظهرت للمرة الأولى(سياسيا) في بريطانيا عام 1655 م عندما دعا أوليفر كرومويل( 1599 - 1658 ) أحد أكثر السياسيين غموضا في التاريخ الإنجليزي.. لعقد مؤتمر يسمح لليهود بالعودة الى إنجلترا بعدما تم نفيهم منها بقرار من الملك إدوارد الأول عام 1290 م (هل تذكرون التاجر اليهودى شايلوك في رائعة شكسبير تاجر البندقية)..الحاصل أنه تم في هذا المؤتمر صٌنع(رابط وهمى)بين اليهود والمصالح الاستراتيجية لبريطانيا ووجوب توطين اليهود في فلسطين.. وسرعان ما تكون في إنجلترا تيار ما يسمى بـ(المسيحية الصهيونية)أو البيوريتانيين والذى هاجر أغلبه الى أمريكا مبكرا جدا.. كنائسنا الأرثوذكسية في الشرق ترفض أفكار هذا التيار تماما.
أيا ما كان السبب فما كان من نتينياهو الا أن يوجه الشكر الشكير الى بومبيو لأن تكون إسرائيل أول زياراته في هذه الأيام الغابرة على رؤوسهم أجمعين .
****
الروائى السودانى الواعد /أحمد ضحية(49 عاما) له رواية (ثلاثية) اسمها( صانع الفخار)يقول في الجزء الأول منها(آلام ذاكرة الطين): يحكى أن تاجرا زوج إبنتيه..(عادى أهوه .. كما يقول الفنان الجميل أحمد حلمى) واحدة إلى فلاح والأخرى إلى صانع فخار .. و بعد عام سافر الرجل ليزور إبنتيه.. فقصد أولا زوجة الفلاح التي استقبلته بفرح.. وحين سألها عن أحوالها.. قالت زوجي إستدان ثمن البذور واستأجر أرضا وزرعها.. فإذا أمطرت السماء فنحن بألف خير.. وإن لم تمطر فإننا سنتعرض إلى مصيبة.
فتركها وذهب لزيارة ابنته الأخرى.. زوجة صانع الفخار.. التي استقبلته بفرح ومحبة.. وفي جوابها على سؤاله عن الحال والأحوال أجابت : زوجي اقترض و اشترى ترابا وحوله إلى فخار..ووضعه تحت الشمس ليجف.. فإن لم تمطر فنحن بألف خير .. وإن أمطرت.. فإن الفخار سيذوب وسنتعرض إلى مصيبة.. عاد الرجل إلى زوجته التي سألته عن أحوال إبنيتها.. فقال لها:  إن أمطرت ألطمي خدك ونوحي.. وإن لم تمطر ألطمي خدك ونوحي..!!
وسواء أمطرت أم لم تمطر.. فنحن فى كل الأحوال وكما قال الصديق العزيز عبد الله السناوى في (جريدة الشروق الاربعاء 13/5/2020م): بالقرب من لحظة انفجار جديدة ربما تكون أخطر انعطافه فى تاريخ الصراع العربى  الإسرائيلى .. أمام أوضاع الانفجار والتمييز العنصرى الفاضح بلا أدنى غطاء أخلاقى للفلسطينيين .. ودعوات التطبيع بالدراما أو السياسة تدليس على التاريخ وعار حقيقى لا يحتمل ولا يمكن أن يمر.
****
 لكن القصة لها رواية اخرى كما يقولون .. ذلك أن هناك أستاذ تاريخ بجامعة تل أبيب يهودى  من اصل بولندى إسمه(شلومو ساند) 74 عاما  هاجر إلى إسرائيل عام 1948  م حصل على دراساته الجامعية من فرنسا.. الماجستير في التاريخ الفرنسي و الدكتوراه عن الماركسية.
هذا الرجل  له ثلاثية هامة تتناول قصة اسرائيل : ( اختراع الشعب اليهودي) و(اختراع ارض إسرائيل) و(كيف لم أعد يهودياً)كلها مترجمة إلى العربية عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية.
فى هذه الثلاثية ينسف الكاتب كل ما قامت عليه إسرائيل من إسقاطات لاهوتية لإخفاء طابعها الاحلالى/ الاستعماري على الأرض الفلسطينية  قائلا: تعبير(الأرض الموعودة) لاوجود له من الناحية اليهودية..
ألم أقل لكم أن بومبيو تفوق على (أوهام) إميل كول و (كرتون) والت ديزنى.