الثلاثاء 19 مارس 2024
توقيت مصر 12:42 م
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

الإخراج السينمائي في القرآن

نستطيع أن نطبق تقنيات الإخراج السينمائي في كثير من آيات القرآن ، و كأن الكلمات القرآنية وتراكيبها وسياقها أدوات فنية وإخراجية من كاميرات ثابتة ومتحركة وديكور و إضاءة وموسيقا تصويرية ، وقد طبقنا تلك التقنيات في كتاب سينمائية المشهد القرآني ، وعرضنا فيه أمثلة لحركة الـلقطة القريبة close up   و تقنية الاسترجاع  flash back  وحركة البانوراما ، وسائر الحركات والتقنيات المستخدمة في فن الإخراج السينمائي . وسوف نضرب هنا في هذا الكتاب أمثلة جديدة لبعض الآيات التي تناولها المفسرون والبلاغيون القدامى  بطريقة مختلفة تستند في أكثرها إلى محاولة إيجاد شواهد لغوية وشعرية تؤيد الاختيار القرآني.وتتضح طريقة القرآن الفنية في إخراج الصورة أو المشهد في آيات مثل : "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا  فلما أضاءت ما حاوله ذهب الله بنورهم ، وتركهم في ظلمات لا يبصرون" . ونقلنا موقف بعض المفسرين في تغيير الضمائر (الالتفات) من المفرد في (الذي- استوقد – حوله) إلى الجمع (نورهم – تركهم – لا يبصرون) . وقد قدمت  في كتاب سينمائية المشهد القرآني وجهة نظر مغايرة تعتمد على التقنيات السينمائية التي أوضحت كثيرا ما كان يقصده المفسرون أو ما غاب عنهم أحيانا ، لعدم امتلاكهم ما أتيح لنا من أدوات في عصرنا هذا.
سأقدم هنا مقارنة بين مشهدين قدمهما القرآن بطريقتين مختلفتين ، ونطرح عدة تساؤلات فنية ولغوية كي نصل إلى نتيجة مفادها أن اللغة هي فن تصويري من خلال كاميرا أخرى خفية تحركها النفس البشرية حسب قدرتها على استخدام الأدوات الفنية و السينمائية .
قال تعالى في وصف بني إسرائيل الذين لم يقوموا بما ينبغي  تجاه التوراة ،فأضاعوا كثيرا منها حفظا وممارسة وتطبيقا :" مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا."
وقال في وصف كفار مكة ، وهم يهربون من مواجهة القرآن كبرا وعنادا: " فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة . فرت من قسورة.
وإذا قارنا بين هذين المشهدين ، فإننا نجد كثيرا من الاختلافات في التقنيات الفنية المستخدمة ، والأدوات السينمائية ، باعتبار أننا نشاهد الآن مقطعين سينمائيين ، ونحاول أن نقارن بينهما .
في المشهد الأول مجموعة من الناس أو العلماء (علماء بني إسرائيل) طلب منهم أن يحملوا التوراة دون الإشارة إلى طريقة التحميل هذه ، وكل يتخيلها بطريقته ، لكنهم كانوا مثل (الحمار) الذي يحمل أسفارا ، وليس مثل (الحمير التي تحمل أسفارا) ، على الرغم من أنهم مجموعة من الناس ، فكيف تحولوا هكذا إلى الحمار الواحد (بتعريف كلمة الحمار.) 
أما في المشهد الثاني ، فالهاربون من دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقرآنه ،كأنهم حمر أي (مجموعة) من الحمير وليس مجرد حمر عادية بل هي تمارس عملية الاستنفار والهروب .ويلاحظ هنا عملية التطابق العددي بين المشبه  (كفار مكة) و المشبه به (حمر مستنفرة) ، كما يلاحظ أن كلمة حمر استخدمت هنا نكرة خلافا لكلمة الحمار هناك المستخدمة معرفة . وقد توقف المفسرون أمام ذلك ، وقدموا شواهد تفيد جواز تشبيه الجمع بالمفرد والمفرد بالجمع وغير ذلك من الشواهد اللغوية . لكننا هنا نحاول إيجاد شواهد سينمائية ، وتطبيق تقنيات الإخراج السينمائي التي من خلالها ندرك تلك الفروق الفنية..فالدلالة المطلوبة في المشهد الأول هي البلادة  وعدم الإدراك لقيمة الأشياء، ولتحقيق هذه الدلالة، فإننا نحتاج إلى تثبيت الصورة ، وعدم تشتيت المشاهد ، وهذا يتطلب أن يكون المشبه به (الحمار) مفردا ، لأنه لو كان جمعا لحدث تداخل  في ذاكرة الاستدعاء بين مفردات مختلفة من الحمير ، كما أن التعريف المستخدم يشير إلى نمطية المعهود عن ذلك الحمار الذي يحمل أسفارا ، ولا يخفى أيضا أن دلالة المفرد تشي بأنهم جميعا تحولوا في ردود أفعالهم إلى ذلك الحمار الواحد ، فلم يشذ أحد ، وفي هذا تنفير من تلك الطبيعة الاستاتيكية التي لم تعد تفكر أو تشعر أو تحس. كما جاء إيقاع الآية بطيئا  ثقيلا ليتناسب مع صورة الحمار وهو يتحرك ببطء من ثقل الحمل الذي فوق ظهره ، مع استخدام كلمة أسفارا بدلا من كلمة كتب التي يستخدمها القرآن عادة إلا في هذا الموضوع لتحقيق فكرة الثقل والبطء ، كما أن كلمة سفر تعني كتابا بالعبرية وهو ما يتناسب مع مشهد يتحدث عن بني إسرائيل. ليس هذا فحسب ، بل إن كلمة كتب تعنى المكتوب والمضموم ، وهي بذلك تعني المحتوى الداخلي ، وهؤلاء القوم انقطعت صلتهم تماما بهذا المحتوى ، فهي مجرد علاقة من الخارج (أسفارا) ، وهذه العناصر مجتمعة تحقق الدلالة الفنية المقصودة بتفرد و(إبهار.)  
أما في المشهد الثاني ، فالدلالة المطلوبة هي النفور والهروب من المواجهة، وهذا يستدعي تشتت في الصورة ، وديناميكية تعبر عن ردود أفعال مختلفة ، فجاءت كلمة حمر جمعا ونكرة لتحقيق فكرة أو دلالة التشتت، مع إيقاع قصير بين الآيات أو الفواصل ، حتى لا يستطيع المشاهد التقاط أنفاسه ، فعناصر المشهد هنا وإيقاعه متلاحقة ، كما لا يخفى تأثير الإيقاعي من تكرار حرف الراء (معرضين- حمر- مستنفرة- فرت-قسورة) ، الذي يدل على تداخل وتشتت عناصر المشهد السينمائي هنا.
وهو يذكرنا بالبيت الذي ذكره الجاحظ في البيان والتبيين ليدلل على صعوبة النطق نتيجة لتقارب مخارج الحروف :
وقبر حرب بمكان قفر   وليس قرب قبر حرب قبر
مع فروق كبيرة ، وهي أن البيت هنا يتحدث عن مشهد ساكن ومنعزل للقبر ، وكان الأجدر أن تكون الصياغة ملائمة للانعزال والسكون ، كما أن البيت مرهق لكل من ينطقه ، أما الآية فهي حققت دلالة التشتت و التداخل مع سهولة في النطق وسرعة في الإيقاع.