الثلاثاء 19 مارس 2024
توقيت مصر 04:24 ص
المصريون
رئيس مجلس الإدارة و رئيس التحرير

جمال سلطان

د. «بكري الجاك»:

علاقة مصر والسودان يجب أن تخرج من اكليشيهات العلاقة الأزلية والتبسيط الاستهلاكي (حوار)

بكري الجاك
حكومة حمدوك فاشلة اقتصاديًا وتحتاج لمعجزة

روشتة صندوق النقد الدولي ستتسبب في آلام عظيمة للسودانيين

لا أعتقد أن فساد 30 عامًا يمكن أن يتم تفكيكه بلجنة

الدولة كانت ومازالت مختطفة عبر عمليات قانونية معقدة


منع الختان والسماح بسفر المرأة يرفع يد الدولة عن التسلط


الخرطوم- مروة كامل

قال الدكتور بكري الجاك، أستاذ السياسة العامة والإدارة العامة بجامعة لونج ايلاند بنيويورك، إن سياسة رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك الاقتصادية هي أضعف حلقة في مسيرة الحكومة الانتقالية.

وأشار إلى لجوئه إلى رفع الدعم عن السلع الاساسية، ومحاولة استجلاب دعم خارجي بتقديم وعود للمؤسسات الدولية بتبني سياسات "راشدة" بدلاً من دعم الدولة اللازم للقطاعات الإنتاجية عبر سياسات حمائية، وتشجيعية للمنافسة محليًا وخارجيًا مقرونة بسياسة مالية ونقدية تسيطر على التضخم.

وأوضح الجاك، في حوار مع "امصريون"، أن الفكرة الرئيسية التي كان يتوجب القيام بها هي أن تضع وزارة المالية يدها على كل الشركات والأموال التي جنبها النظام البائد.

وشدد على أنه كان يجب ان تكون أولوية الحكومة هي التعاطي مع مشكلة عجز الميزانية عبر سياسة طويلة المدى، بدلا من تبني سياسات متضاربة وغير منطقية تمثلت في زيادة المصرفات من خلال المرتبات دون توفير مصادر تمويل مستدامة.

وحذر من خطورة طباعة النقود على مستقبل الاقتصاد السوداني، مشيرا إلى أن التضخم سيتفاقم نتيجة لعدم توافر مصادر أخرى لزيادة الرواتب، بدلا من التمويل بالعجز، الذي كان وسيكون هو وسيلة الحكومة للإيفاء بالتزاماتها، لافتا إلى أن مثل هذه الزيادة أدت إلى  رفع التضخم بأكثر من 13% حسب بعض الاحصائيات.

وأعرب الجاك عن أسفه لعدم وجود رؤية واضحة للحكومة في إدارة الاقتصاد الكلي أو سياسات مالية ونقدية للسيطرة على التضخم، معتبرا أنها تحتاج إلى معجزة.

وقال إن تحالف الحرية والتغيير سيستمر بنفس ضعفه وربما ينقسم إلى مجموعتين، مشيرًا إلى أن استمرار حالة توازن الضعف بين العسكر والمدنيين ستؤدي إلى انقسام الشارع، لكن هذا لا ينفي وجود  إمكانية أن يفرز الشارع قيادة جديدة.

واعتبر الجاك أن أسوأ ما في الوضع الراهن أن الحكومة ليس لها سلطة على النيابة ولا القضاء، ما يفتح الباب لأبناء رجالات الإنقاذ لإطالة أمد التقاضي إذا سئلوا عن مصادر أموالهم.                                 

 ما تقييمك للنهج الاقتصادي لحكومة حمدوك؟

السياسة الاقتصادية لحكومة حمدوك هي اضعف حلقة في مسيرة الحكومة الانتقالية، منذ تشكيل الحكومة في سبتمبر، مشاكل الاقتصاد السوداني معروفة منذ زمن بعيد وتتمثل في الاختلالات الهيكلية مثل ضعف الايرادات مقابل تزايد المنصرفات وارتفاع الواردات مقابل الصادرات وعدم استقرار سعر الصرف، وهي الأزمات التي تفاقمت مع تصدير النفط في 1999 ومن ثم اكتمال عملية اعتماد كل الاقتصاد السوداني عليه، في اوائل الالفية الجديدة، ففي 2011 عشية انفصال الجنوب كانت مبيعات النفط تشكل حوالي 95% من ايرادات الميزانية، فيما كان القطاع الزراعي يشكل عماد الاقتصاد السوداني، فحوالي 80% من العمالة السودانية كانت تعمل في القطاع الزراعي، لكن في يونيو 1989 بدأ تدميره منذ اوائل التسعينات واكتملت الحلقة بتركيز كل الاستثمارات في قطاع النفط في 2005 و2006 وهو ما أدى لخلق صورة غير حقيقية عن تحسن اقتصادي انعكس في حدوث طفرة في الاستهلاك وتحسن نسبي في مستوى المعيشة لسكان المدن مع أن الاداء الكلي للاقتصاد السوداني كان في تراجع مستمر، فكلفة انتاج اي شيء محليا أصبحت أعلى من سعرها في السوق العالمي، الامر الذي شجع على تزايد الاستيراد وفي ظل غياب سياسة حمائية من الدولة، ما أدى إلى تدهور قدرة المنتجات المحلية حتى في المنافسة في السوق المحلي ناهيك عن التصدير.

 هل ساهم انفصال الجنوب في تعميق أزمة السودان الاقتصادية؟

بانفصال الجنوب وذهاب عائدات النفط بدأت الحكومة في مواجهة مشاكل حقيقية فتدمير بقية القطاعات كان قد اكتمل وبدلا من تبني سياسة كلية لانعاش الانتاج في الزراعة والصناعة والتعدين والنقل وغيرها، كانت آخر محاولات المخلوع البشير خلق شركات أمنية مستقلة عن جهاز الدولة تقوم بتصدير اللحوم والذهب لتوفير عائدات لتمويل الحرب ومنافع الشلة المتنفذة في حين ظلت بقية الشعب تواجه الأوضاع المتدهورة.

 ولكن هل كانت حكومة حمدوك على علم بكل ذلك؟

حكومة حمدوك كانت تعلم بكل ذلك، وكان الأفضل لها أن تبدأ بالتفكير في سياسة كلية لإنعاش القطاعات الانتاجية وتوفير دعم الدولة اللازم من سياسات حمائية وتشجيعية لمساعدة القطاعات الإنتاجية للمنافسة محليا وخارجيا مقرونة بسياسة مالية ونقدية واضحة للسيطرة على التضخم.

لكن لماذا القسوة على حمدوك رغم أن مفردات الفشل الاقتصادي لم تكن إلا إرثًا من النظام البائد؟

بالطبع لا بد أن نؤمن أن الواقع كان ومازال معقدا، فالنظام البائد كان يدير الدولة من خارج أجهزتها، وفكرة وضع وزارة المالية وحكومة السودان يدها على كل الشركات والأموال المجنبة، كان يجب ان تكون في اعلى الأولويات، لكن على عكس هذه الخطوط العريضة تعجلت حكومة حمدوك في محاولتها سد عجز الميزانية برفع الدعم ومحاولة استجلاب دعم خارجي بتقديم وعود للمؤسسات الدولية بتبني سياسات "راشدة" تقلص عجز الميزانية بإلغاء دعم السلع الاساسية والمحروقات والكهرباء و الغاز.

كيف تنظر لمحاولات إدارة حمدوك السيطرة على التضخم؟

ادارة الاقتصاد الكلي والسيطرة على التضخم، كان يجب أن تكون أولوية حكومية والتعاطي مع مشكلة عجز الميزانية عبر سياسة طويلة المدى، وبدلا من ذلك سارعت الحكومة إلى تبني سياسات متضاربة وغير منطقية، فمن ناحية رفعت الدعم لتقليص الصرف من غير ايرادات، وفي نفس الوقت قامت الحكومة بزيادة المصرفات من خلال المرتبات دون توفير مصادر تمويل مستدامة.

ألا تشفع زيادة المرتبات لحكومة حمدوك؟

 رغم قول وزير المالية المستقيل الدكتور البدوي إن تمويل زيادة المرتبات سيأتي من مصادر أخرى، إلا أن الواضح ان طباعة النقود كانت وستكون هي وسيلة الحكومة للإيفاء بالتزاماتها، وهذا ما سيفاقم التضخم، الذي ارتفع منذ زيادة المرتبات بأكثر من 13% حسب بعض الاحصائيات.

ألا يمكن أن يكون ذلك في إطار رؤية أخرى شاملة للحكومة؟

المؤسف حقا أنه وحتى هذه اللحظة لا توجد لهذه الحكومة رؤية واضحة لإدارة الاقتصاد الكلي وسياسات مالية ونقدية واضحة للسيطرة على التضخم وإن وجت فيبدو أنها سرية، وهذا ما ينذر بواقع اقتصادي في غاية الصعوبة فيما تبقي من هذا العام، وربما تحتاج حكومة حمدوك إلى معجزة.

أيهما الأفضل للسودان: استمرار دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة أم اختيار جون بايدن؟

من ناحية فلسفية وتاريخية الإدارات الديمقراطية كانت أكثر جدية في دعم تجارب الانتقال الديمقراطي، ولكن بشكل عام ادارة السياسة الخارجية في الولايات المتحدة تتم عبر مؤسسات راسخة، تتوزع ما بين الخارجية والكونجرس والبيت الأبيض، وما يتبع له من مؤسسات استخباراتية، ربما سيكون للسودان حظ أوفر بوجود إدارة ديمقراطية تولي الاعتبار لأمور مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، لأن الإدارة الحالية لا تولي أي اهتمام ذي بال لقضايا حقوق الانسان والديمقراطية، وفي تقديري في كل الاحوال السودان سيتوصل إلى مرحلة تطبيع كاملة للعلاقات مع الولايات المتحدة، سواء تمت إعادة انتخاب ترمب أم لا، الفرق هو السرعة التي سيتم بها هذا التطبيع.

البعض يرى أن تعويضات الباخرة كول التي التزمت بها الحكومة الحالية تمهيدًا لرفع اسم السودان من قائمه الارهاب مبالغ فيها.. ما رأيك؟

هذه المبالغ هي نتاج أمر قضائي، وحكومة المخلوع البشير لم تكترث للذهاب إلى جلسات هذه المحاكمات، وبغض النظر عما إذا كان المبلغ مبالغا فيه من عدمه فإن المسؤولية السياسية تقع على حكومة المخلوع وممثليها في واشنطن. ومسألة أن المبلغ مبالغ فيه مسألة تقديرية، ولبلد مثل السودان فإن مليون دولار هو مبلغ كبير إذا أخذنا في الاعتبار احتياجات البلاد وظرفها الاقتصادي.

هل ترى ان القبول بمحاكمة البشير خارجيا سيؤدي إلى تحسين فرص السودان في الخروج من العزلة الخارجية؟

لا أعتقد أن محاكمة البشير ستؤثر كثيرا على مستقبل علاقات السودان الخارجية، وفي تقديري فإن تسليمه لمحكمة العدل الدولية ربما يمنح الحكومة شيئا من المصداقية في أمر تحقيق السلام، أما المجتمع الدولي فله مصالح محددة مع السودان وسيعمل على حمايتها إذا حوكم البشير في الداخل أو الخارج أو حتى إذا أطلق سراحه.

كيف تنظر إلى الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن ينتجها قبول السودان لروشتة صندوق النقد الدولي؟

إن الاستمرار في هذه السياسة المتضاربة سيتسبب في آلام عظيمة للسودانيين من غلاء وندرة في السلع وصعوبة الحصول على الدواء والعلاج.

هل تؤدي اتفاقية الحكومة مع الحركات المسلحة بالمشاركة في المجلس الرئاسي وحكومة حمدوك الي نهاية الحرب الأهلية السودانية؟

ما لم يتم الايمان بسلام عادل وشامل يخاطب جذور المشاكل من تهميش وتنمية غير متوازنة ومظالم لا أري سبيلا إلى تحقيق سلام دائم حتى وإن تم توقيع اتفاق، وقد تحقق هذه الاتفاقيات حالة ما يسمي بالسلام السلبي أي عدم وجود حرب ولكن لا توجد حياة طبيعية إذ ستظل قطاعات واسعة من الشعب السوداني تعاني من آثار الحرب ومن الفقر والجوع بسبب تبعات الحرب ومخلفاتها.

كيف تنظر إلى حاله توازن الضعف الحالي بين المكونين العسكري والمدني في المجلس الانتقالي؟

ستستمر هذه الحالة ما لم تحدث اختراقات محلية أو خارجية ترجح الكفة بشكل ما لصالح جهة على حساب أخرى.

 
ما رأيك في مستقبل حركه الحرية والتغيير؟

أعتقد أن تحالف الحرية والتغيير سيستمر بنفس ضعفه وربما ينقسم إلى مجموعتين، وحتى إن حدث هذا فإن استمرار حالة توازن الضعف بين العسكر والمدنيين ستبقي حقيقة أن الشارع ربما سينقسم من خلفها وربما يستطيع الشارع إفراز قيادة جديدة وهذه عملية لا أرى لها أي قابلية في ظل هذه السيولة السياسية.

هل لجنه إزالة التمكين قادرة على إنهاء السيطرة الإسلاموية على مفاصل الدولة السودانية؟

لا أعتقد أن فساد 30 عاما يمكن أن يتم تفكيكه بلجنة.. قريبا سيكتشف الناس أن الدولة بأكملها، كانت ومازالت، مختطفة من خلال عمليات قانونية معقدة، فيها تغيير ملكية وشهادات بعث وإخفاء مستندات وغيرها من الحيل السياسية، وأسوأ ما في الوضع الراهن أن حكومة حمدوك ليس لها سلطة على النيابة ولا القضاء، وهو ما يمكن تسميته باستبداد القضاء بدلا من استقلال القضاء، وإذا ما تم فتح الباب لأبناء رجالات الإنقاذ للتقاضي في أحقية الأموال، التي حصلوا عليها من آبائهم، فإن هذه المحاكمات قد تستمر إلى عشرات السنين، لابد من صيغة للعدالة الانتقالية التي تمزج ما بين إجراءت التقاضي وصيغ مجتمعية أخرى لإنهاء التمكين واستشراف المستقبل، خلاف ذلك ستظل القصة أقرب إلى التشفي دون مخاطبة جذور اختطاف الدولة.

ماذا عن العلاقات بين السودان ومصر في هذا الظرف الدقيق؟

في تقديري أن العلاقات السودانية المصرية، تعرضت لامتحانات أصعب في السابق، ربما أصعب من الوضع الحالي ورغم ذلك استطاع البلدان إعادة تعريف المصالح المشتركة والمضي قدما. ومن نافلة القول إن العلاقة بين البلدين فيها تداخلات شعبية لا تخضع لإرادات سياسية ظرفية ومحدودة، وبنفس القدر هنالك محمولات سلبية موروثة منذ حملة محمد علي باشا في 1821، والمؤسف أن الدولتين لم تعملا بشكل جدي على توظيف التقارب الثقافي والمصالح المشتركة في بناء تعارف حقيقي يخرج من الكليشيهات والتبسيط الاستهلاكي.

لكن هل هناك تصور لحل شامل لإشكالية العلاقة الملتبسة بين البلدين؟

في تقديري من خلال قراءاتي لتاريخ هذه العلاقات وبحكم أنني حظيت بالحياة في مصر لأربع سنوات أن المكان الوحيد الذي تبقي لتذهب اليه هو النضوج المتمثل في الندية والتعارف الحقيقي والاحترام المتبادل والتقارب الثقافي، وأنه قد انتهى عهد المفردات، التي لا تقول شيئا إلا في وصف الماضي من شاكلة "العلاقات الأزلية"، إذ يجب أن تتحول هذه العلاقات الأزلية إلى برامج ثقافية واجتماعية تقود إلى تعريف المصالح المشتركة وتعظيمها بما يعود بالمنفعة على شعبي البلدين.

 كيف تقرأ قرارات وزير العدل بمنع الختان والسماح بسفر المرأة مصاحبة أولادها بدون إذن زوجها والسماح بشرب الخمور وبيعها لغير المسلمين؟

في تقديري أن الثورة السودانية بقدر عظمتها إلا أنها حتى الآن لم تؤد إلى تغيير مادي كبير في حياة الإنسان السوداني إلا في مجالي الحريات السياسية ولكن قرارات وزير العدل الدكتور نصر الدين عبد الباريء تؤثر على حياة الناس بشكل مباشر ومادي، خصوصا النساء والمقهورين، الذين ظلوا يدفعون ثمن توظيف الدين كوسيلة لتقنين القمع الاجتماعي، فهذه القرارات رغم ما بها من تمرحل وتضارب وربما عدم قابلية للتطبيق، إلا أنها بمثابة رفع يد الدولة في التسلط على الافراد وهي تعطي الأمهات الحق في التمتع بحضانة الاطفال والحركة والسفر داخليا وخارجيا وهو أمر يبدو طبيعيا لكل ذي عقل، ليبقى السؤال هل كان يتحتم على نساء السودان الانتظار حتى عام 2020 للتمتع بهذا الحق البديهي.